فلنبدأ برئيس البلدية

لو أنّ في الفريق البرازيلي المهزوم شرشاً عربياً لسمعناهم يصيحون من غير تردّد :هذه مؤامرة علينا قام بها الأوروبيون ليحظوا باللقب 2014 وأنّ من عَطَبَ لاعبهم نيمار مدسوسٌ عميلٌ للألمان،وكلّ هذا العمل جاء بتخطيطٍ أمريكي لتهشيم صورة البرازيل وتشويه صورة البنّ الشهير لينتهي الناس عنه فيشربوا الكوكاكولا.

هذا هو حالنا وهذه هي ثقافتنا التي ربّونا عليها منذ مئة سنة ،فإذا سقط ولدٌ لدينا في البكالوريا نقول أنه مخططٌ خبيث لضرب عنفواننا الذي يرهبهم، وإذا صدفَ أن ماتَ أحدٌ من مواطنينا الموهوبين في المهجر بحادث سير، نصرخ :إنها مؤامرة لتصفية علمائنا وكأن كل الذين نبغوا منّا وحلقوا لم يكونوا قطعا عائشين في بلاد الغرب، حتى ستيف جوبز الجندلي.....ما كان ليجترح الأيفون لو عاش في حمص.

هذه خصائلُ الولد الذي لم ينْضج ،خصائل يعرفها علماء النفس والاجتماع، فالولد هذا يضع اللوم دائما على الغير وبخاصة أهله،فكلّ فشلٍ يصيبه أو كبوةٍ يقوم بها، يلقي اللوم على أبويه اللذين لا بدّ قصّروا في مكان ما،حتى حادث السيارة إذا ما قام به، يلوم أهله الذين علّموه القيادة...

ثقافةٌ تقومُ أولا على الاستسهال والتنصّل عبرتحميل المسؤولية للآخرين الذين قصّروا أو تواطأوا عليه كونه شيئا مهما جدا وما هو بالحقيقة سوى فاشل ضئيل وتافه يعاني من عقدة التوهم أنه مهم ،عقدة تسيطر عليه عبر استعراض زمن بعيد من أمجاد أجداده هو قطعا ليس زمانه ولا حقيقته...

توصيف أبدع الصادق النيهوم الكاتب الليبي النادر في قومه والذي أبدع وحلّق وعاش عمره كستيف جوبز في بلاد ليست بلاده،في سويسرا حيث عاش وفكّر وتحرر ومات.

يقول النيهوم في وصف الانسان العربي المتأسلم: يعيش هذا الرجل بلحيته الكثّة والدشداشة البيضاء والسبحة الطويلة ورتلا من الفقهيّات القديمة، متقمّصا الخليفة العظيم عمر بن الخطّاب ،ليدرك بعد حين حقيقته والحقيقة تفضح،إذ يرى أنه يعيش على جزيرة معزولة تحوط بها القمامة وتنبعث منها الروائح الكريهة التي تعبق به وبأولاده الفقراء العراة...يعيش على جزيرة من الجهل والعوز والفاقة ...يدرك الرجل حقيقته فيرمي اللوم على الآخرين في نفس مفهوم المؤامرة التي تكيد  له، مستفيضا بترداد أمجاد أجداده التي سقطت من ألف عام،حينما صرخت الأم بولدها الملك عبدالله الصغير إذ رأته يبكي ضياع الأندلس : فابكِ كما النساء ملكا لم تحافظ عليه كما الرجال"

المكائد والمؤامرات موجودة وجود التاريخ البشري عبر صراع المصالح والغلبة ،والامبراطوريات موجودة من فجر التاريخ ،تقوم على الفتح والسيف وأخذ الثروات والسيطرة عليها ...والمسلمون أنفسهم لم يكونوا الأم تريزا حين سيطروا على نصف الأرض ودقت نعالهم حدود فيننا ،وما كان بنو عثمان فرق كشّافة أو صليب أحمر في الأمكنة التي حكموها خمسماية سنة من التاريخ.

فلنكف عن ثغائنا الأهبل الضعيف والخبيث الذي يندب ماضيه ويلقي اللوم على غاصبيه،ولنبدأ بأنفسنا ،ببلدنا الصغير أولا، بل ببلدتنا بل بضيعتنا برئيس بلديتنا لنقول له :كف عن سرقتنا وارحل عنا كي نولّي أمورنا للكفئ منّا، فيرعى شوارعنا ويحسّن مدينتنا ويحترم عقولنا وكرامتنا فلا يسيح في البلاد على حسابنا يصرف ويأكل ويتسوق ويقبض خرج راح يومي لجيبته الجوعانة...

فلنبدأ به بأصغر دائرة ورقعة بدل أن نرفع الشعارات الفارغة ونقول أن الدولة تتآمر علينا لأننا مثلا ومثلا :بلد الصمود وقلعة المسلمين...الخ من التسميات الخاوية من معناها...أو أن هنالك مؤامرة على المسيحيين تستهدف الزعيم نفسه الذي خرب بيوت المسيحيين...

ثقافة المؤامرة ولوم الآخرين لم نجن منها سوى المزيد من الخواء والتحسر والأهم من كل هذا :احتقار الآخرين لنا ونحن ممعنين في صبينتنا وملاومتنا وشعاراتنا المبكية...

                                                   حسين الجسر