تشكل الإنتخابات النيابية في أي بلد يعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية هاجساً بالنسبة للطبقة الحاكمة أو الأحزاب المسيطرة، فيحاولون إما عرقلة إجراء الإنتخابات أو افتعال المشاكل لشدّ عصب مناصريهم، وأضعف الإيمان تجميل صورتهم لكسب الأصوات التي قد يخسرونها نتيجة تدهور الوضع في البلاد.
أما لبنان، وفي حالته الاستثنائية، فالأمر بطيبعة الحال مختلف، إذ إن الطبقة الحاكمة تتّبع سياسة، إن لم تستحِ فإفعل ما شئت، وعلى هذه القاعدة بدأت الماكينة الانتخابية لكل جهة توزيع المال الانتخابي بطرق وأساليب عديدة، تارةً عبر البطاقة التموينية، وتارة أخرى، عبر استغلال الأوضاع الاقتصادية لتوزيع المازوت بأسعار أقل من السوق، وهو ما يفعله التيار الوطني الحر مثلاً ببيع طن المازوت بنحو 3.5 مليون ليرة، فيما سعره الطبيعي نحو 14 مليون في السوق، بحسب الجميعة اللبنانية من أجل ديمقراطية الإنتخابات LADE.
الأمر يتكرر في لبنان، وبوقاحة ما بعدها وقاحة، فالساسة قرروا استكمال نهجهم المتعالي مع شعبهم، والإصرار على نظرية، "ضرورة اخضاع الناخبين لنا"، من خلال ما يعانيه المواطن من أزمات اقتصادية، يُمَكِّن من خلاله أصحاب الأموال والنفوذ الدخول إلى جيب المواطن لشراء صوته، وعلى "عينك يا تاجر"، أكان عبر البطاقة التموينية أو توزيع المازوت، خصوصاً في المناطق الجبلية، حتى وصل الأمر بأحد المرشحين لطبع صوره على ربطة الخبز في طرابلس، وكأنه يقول بعبارة أخرى "كول وصوّتلي".
كثيرة هي الاساليب التي تعتمد في لبنان لشراء الأصوات. سابقا كان الأمر يقتصر على وعود بالتوظيف في دوائر الدولة، وما الفائض في الكثير من الدوائر الرسمية سوى دليل على ما حصل في السنوات الماضية، ولكن الأمر هذه السنة مختلف تماماً. فكما ذكرنا ان التيار الوطني الحر، على سبيل المثال لا الحصر، ببيع طن المازوت بنحو 3.5 مليون ليرة، فيما سعره الطبيعي نحو 14 مليون فـي السـوق. أما حزب القوات اللبنانية، فقد عمد أصحاب المحطات التابعين له، بتوزيع مادة البنزين على المنتسبين للقوات، وفي الأخصّ محطة صقر، حيث خزّن صاحبها آلاف الليترات لتوزيعها على المقربين. كما وقعــت حــوادث مماثلـة فـي شـارع الحمـرا، حيـث يسيطر الحزب السوري القومي الاجتماعي علــى العديد من محطات الوقود ويدير التوزيع.
وبحسب المدير التنفيذي في جميعة LADE، علي سليم، فقد استغلت الأحزاب السياسية العام الدراسي لشراء الأصوات، حيث سهّل حزبيون فـي حركة أمل وأحزاب أخرى عملية حصول الطلاب المنتسبين، علــى مساعدات مالية لرسـومهم الدراسـية. وأيضاَ، قدّمت القوات اللبنانية خدمات للطلاب مـن خـال جبهتهـا الطالبيـة.
وفي هذا السياق، وصف أحد طلاب الجامعة اللبنانية الأميركية خلال مقابلة مع الفريق البحثي للـLADE، ما يحصل من رشاوى، بالزبائنية، قائلا: "هذا النهج تكملة لما كان يحدث خلال السـنوات السابقة، والزبائنية في الانتخابات الطلابية جزء لا يتجـزأ مـن الزبائنية فـي انتخابـات المجـس النيابـي". والامر طال حتى بعض الحملات والتي يفترض أن تكون مستقلة في جامعة بيروت الأميركية، حيث قدّمت إحدى الحملات خدمات مقابل دعم الطلاب لهم في الانتخابات.
أولى المؤشرات الزبائنية التي لقيت تغطيـة إعلامية وتحليلات سياسـية كثيـرة تحسباً للانتخابات وتفعيـل الأحزاب لماكيناتها، تكمن في الوقـود الإيراني الذي دخل لبنان عبر سـوريا، مع إعلان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله خطـوة اسـتيراد المحروقات كحل لأزمة الوقود فـي البلاد. ونجحت مبادرة الوقود الإيراني في إثارة أنصار حزب الله وشبكاته الزبائنية في تبجيل تلك الخطوة، كما قام بتوزيعها على مختلف المناطق خصوصاً للحلفاء، وكأنها رافعة دعم لهم في مناطقهم.
ورغم أن الحزب ومعه حركة أمل يمتلكان جماهرية واسعة ضمن الطائفة الشيعية، إلا أن التململ من الأوضاع في البلاد قد يدفع بفئة كبيرة إلى عدم المشاركة أصلاً في الاستحقاق النيابي، وهو ما يخشاه الثنائي الشيعي، حيث يكثف في الفترة الأخيرة الندوات الحزبية في القرى والبلدات، على قاعدة أن هذا الاستحقاق هو امتحان خارجي لشعبية "المقاومة". وهو قد كرس بعض الشخصيات المقربة منه، لإجراء تلك الجولات.
ورغم أن قانون الانتخابات مُفصّل بشكل لا لبس فيه على جسم الطبقة السياسية، فالرشاوى الانتخابية معظمها لا يمكن اثباتها أمام القضاء نظراً لكون المساعدات تُقدَم قبل حتى تحديد موعد الانتخابات، بحسب الناشط وليد فخر الدين، فالقانون يحدد بأنّ "أي مؤسسة أو جمعية ذات منفعة عامة لا يعتبر عملها على أنها رشاوى انتخابية ولا تدخل ضمن الانفاق الانتخابي"، حيث اعتمد المشرع على حرمان الناس من تلك الخدمات بحجة الانتخابات، وهي المشكلة الموجودة في المادة 62 من قانون الانتخاب، حيث يسمح للقوى السياسية التقليدية من اللعب داخل هذه الثغرة لشراء الأصوات، ولا يمكن اثبات أن المستفيد من الخدمات سينتخب الجهة المقدمة للمساعدات، ولكن إذا عمل المجلس الدستوري بروح القانون من خلال مقارنة المبالغ المنفقة في السنة الانتخابية مقارنة بالسنوات الماضية، لكانت اكثر ما يمكن اعتبارها انفاقاً انتخابياً.
ونظراً لصعوبة اثبات أن بعض المؤسسات التي تقدم مساعدات إنسانية مشروطة بالدعم السياسي أو الانتخابي، فتوزيع المازوت في القرى، بحسب فخر الدين، يأتي من قبل الأحزاب ومن المفترض اعتباره رشاوى انتخابية، فكلّ الأحزاب دخلت في هذه اللعبة من خلال استغلال أوجاع الناس، وإذا اردنا اعتبارها رشوى انتخابية يمكن اعتبارها من تاريخ دعوات الهيئات الناخبية، في 10-1-2022، كما قال.
الرشاوى الانتخابية وبالطريقة التي تعتمد في لبنان يصعب اثباتها، خصوصاً في فترة الأعياد وشهر رمضان حيث تقام الولائم الرمضانية والهدايا التي قدمت في عيد الميلاد.
خلاصة القول، الانتخابات المقبلة، ونظراً للكم الهائل من الأموال التي تدفع أحياناً بحجة المساعدات الإنسانية، وتفصيل القانون بما يتلائم مع المرشحين، فإن اليد الطولى ستكون لمن يملك الأموال، فيما الأمل يبقى على القوى التغييرية لخرق تلك المنظومة المتهالكة منذ عقود.
علي عواضة