شهدت بيروت أمسية موسيقية استثنائية طُبعت في ذاكرة عشاق الموسيقى الراقية والفن الرفيع، وذلك في حدائق متحف سرسق العريق، بدعوة من رئيسة المعهد الوطني العالي للموسيقى المؤلفة الموسيقية هبة القواس وسفير إسبانيا لدى لبنان خيسوس إغناثيو سانتوس أغوادو.
أمسية خلابة للغيتار والأوركسترا في حدث موسيقي غير مسبوق لثلاثة كونشرتوهات غيتار في أمسية واحدة، أحيتها الأوركسترا الفلهارمونية الوطنية اللبنانية، مع عازف الغيتار الأسطوري خوسيه ماريا غاياردو ديل راي بقيادة المايسترا العالمية دايانا غوفمان. حفل مختلف ومتميز جمع بين عظمة التراث الموسيقي الإسباني وسحر الشرق، في توليفة موسيقية فريدة، محققًا بذلك لقاءً فنيًا نادر الحدوث للاحتفال بالبراعة الموسيقية وتكريم الإرث الفني الغني.
وحضر الأمسية شخصيات دبلوماسية وثقافية بارزة، على رأسهم، دولة الرئيس فؤاد السنيورة، ودولة الرئيس الدكتور طارق متري، وعقيلة رئيس الحكومة السفيرة سحر بعاصيري سلام، وسفير إسبانيا لدى لبنان خيسوس إغناثيو سانتوس أغوادو.
وافتتحت الحفل رئيسة المعهد د. هبة القواس بكلمة مؤثرة جاء فيها: "نُرحّب بكم في هذا المساء المتوّج بالوتر، والمُحمّل برائحة الذاكرة ووجدان المدينة. شرفٌ لي أن أستضيفكم في أمسية نادرة، في حضرة السيّدة سحر بعاصيري، عقيلة دولة رئيس مجلس الوزراء، التي لا تحمل فقط اسماً لامعًا في الإعلام والدبلوماسية والثقافة، بل هي المرأة التي يتّسق حضورها مع وقار الكلمة وبهاء الفكر وعمق الانتماء الثقافي. نُحيّي من خلالها مرحلة سياسية جديدة، يقودها دولة الرئيس نواف سلام، تضع الثقافة في قلب السياسات الوطنية، وتفهم دور الفن لا كترف، بل كركن أصيل في نهضة الإنسان والوطن. نلتقي الليلة في فضاءٍ يَشمَخُ بالجمال كما بالحكاية، في باحة متحف سرسق، هذا الصرح الذي لم يكن يومًا مجرد مبنى، بل مرآة لذاكرة بيروت وأناقتها، ومَعلَمٌ يحفظ نبض الفن اللبناني ورُقيّه.هنا، حيث تتآلف العمارة مع الروح، واللوحة مع الضوء، نفتح أبواب النغمة على مصراعيها، وفي الخلفية، ظلُّ المفكر والمثقف الكبير، دولة الدكتور طارق متري، الذي لطالما ظلّ حارساً أميناً على إرث هذا المكان، وعلى روحه الثقافية النبيلة."
وأضافت القواس: "منذ خمسٍ وعشرين سنة، نتقاسم الفن كمن يتقاسم الخبز. نحتفل بثلاث كونشرتوهات:كونشيرتو أرانخويث للراحل خواكين رودريغو، ألماس لأرانخويث من تأليف خوسيه ماريا غياردو ديل ري، و"تقاسيم على إشبيلية"، كونشرتو الغيتار رقم ١ من تأليفي، حيث يمتزج المقام العربي بروح الفلامنكو، في لقاء نغميّ بين الأندلس والمشرق. وفي قلب هذا المشهد الموسيقي، تنبض الأوركسترا الفلهارمونية الوطنية اللبنانية، هذه الأوركسترا التي تُثبت في كل مرة أن لبنان، مهما انكسر، لا يُطفئ صوته. هي أوركسترا أُعيد بناؤها وسط أزمات، لكنها نهضت لا بفضل الموارد، بل بفضل الإرادة. أشكر كل موسيقي وموسيقية في هذا الجسم الحي، على التزامهم، واحترافهم، وإيمانهم بدورهم في كتابة النغمة اللبنانية القادمة. ولا يمكن أن نُكمل هذا المساء دون أن نُعبّر عن امتناننا العميق لشركائنا في صناعة هذا الحدث: مؤسسة LBCI، تلفزيون لبنان، BlueSound، والأستاذ شادي سعد، الذين لم يكتفوا بنقل الصورة، بل شاركوا في تشكيلها".
وتابعت القواس بالإنكليزية: "هذه الأمسية هي أكثر من مجرد حفل موسيقي، إنها احتفال بتعاون طويل الأمد ورؤيوي مع سعادة سفير إسبانيا، خيسوس إغناثيو سانتوس أغوادو. في كل مرة نلتقي، تولد فكرة إبداعية. الليلة هي إحداها. وهناك الكثير في الطريق.هذا التجمع ليس مجرد احتفال، إنه جزء من مهمة أوسع تبنيناها بوضوح وشجاعة: لإعادة بناء المشهد الموسيقي في لبنان، لإحياء مؤسساته، ولاستعادة الموسيقى كهوية أساسية لهذا البلد، كقوة للجمال، والتعليم، والثقافة، والاقتصاد، والكرامة، والانتماء. وبهذه الروح، تُعد ليلة اليوم علامة فارقة. ليس فقط للبرنامج الاستثنائي الذي نقدمه، بل للعلاقات الفنية الرائعة التي يجسدها. وجود خوسيه ماريا غالاردو ديل ري على هذا المسرح هو أكثر من مجرد امتياز، إنه لحظة نعمة للبنان. خوسيه ماريا ليس مجرد عازف جيتار وملحن ذو شهرة عالمية. إنه رفيق روح في الموسيقى. إنه ليس فقط أحد أشهر عازفي الغيتار والمؤلفين في عصرنا، بل هو أيضًا سفير المعهد الوطني العالي للموسيقى في لبنان، والمشرف العام على قسم الغيتار لدينا، حيث نتبع الآن بفخر منهجية أكاديمية الجيتار الإسبانية".
وختمت: " تحمل عصا قيادة الأوركسترا الليلة المايسترا الرائعة دايانا غوفمان، قائدة أوركسترا عمقها وجرأتها يرفعان كل نغمة. والقلب النابض خلف كل ذلك—الأوركسترا الفلهارمونية الوطنية اللبنانية، التي ولدت من جديد، وتجددت طاقتها، وعزمت على مهمتها لاستعادة مكانة لبنان المستحقة على الخارطة الثقافية".
ثم كانت كلمة معبرة لسعادة سفير إسبانيا شكر فيها رئيسة المعهد وأشاد بالتعاون بين الكونسرفتوار وسفارة إسبانيا الممتد لسنوات مضت، وما يحمل من مشاريع إبداعية ملهمة للبلدين، ووعد بتعاونات مقبلة. ورحب بالعازف الإسباني الذي يحمل روح بلده وأصالتها إلى لبنان.
وكانت كلمة للسفير الإسباني رحب فيها بهذا التعاون الغني مع الكونسرفتوار، وشكر غاياردو ديل راي على حضوره.
وكان نجم الأمسية بلا منازع عازف الغيتار العالمي خوسيه ماريا غاياردو ديل ري، وهو من أهم عازفي الغيتار في العالم من دون منازع، بتقنيات غير عادية لا يمتلكها أحد سواه. يجمع خوسيه ماريا بين الغيتار الكلاسيكي والمعاصر وهو المولود في أشبيليا ما أورثه في لا وعيه سحر الغيتار الأندلسي من موطنه الأصلي. بحضوره الآسر وبراعته الفائقة، آخذًا الجمهور في رحلة موسيقية عميقة عبر أوتار غيتاره. أداؤه كان تجسيدًا للشغف والتقنية، حيث تناغمت أوتاره لتصنع لوحة صوتية غنية بالظلال والألوان، حيث يختلف رنين الغيتار في أثناء تأديته ليملأ الفضاء بـ Resonance غير معهود عند العازفين وبشهادة كبار نقاد الموسيقى، لا يمتلكه أحد سواه. من خلال أصابعه التي تتراقص برشاقة على الأوتار، لم يعزف غاياردو ديل ري مجرد نغمات، بل روى قصصًا، ونسج مشاعر، وحلق بالسامعين في عوالم من الجمال المطلق، وأثبت مرة أخرى لماذا يُعتبر أحد أبرز عازفي الغيتار في العالم.
وتكمن أهمية خوسيه ماريا غاياردو ديل ري في كونه ليس مجرد عازف متفرد وشهير، بل لأنه ظاهرة موسيقية متعددة الأوجه. مسيرته الفنية الغنية تمتد لأكثر من عقود، شهدت خلالها إبداعاته كمؤلف وعازف منفرد، ومشارك مع أوركسترات عالمية، قدم عروضًا في أرقى المحافل حول العالم. يمتلك غاياردو ديل ري القدرة على استخلاص أقصى درجات التعبير من آلته، مزجًا بين الصلابة التقنية والحس الفني العميق الذي يميز موسيقى الغيتار الإسباني. يُعرف بأسلوبه الذي يجمع بين الأصالة والحداثة، حيث يضيف لمسته الخاصة على الأعمال الكلاسيكية، ويبدع في أعماله الخاصة التي تحمل بصمته الفريدة.
وإضافة إلى تألقه كعازف، يحمل غاياردو ديل ري لقبًا ذا قيمة تعليمية وفنية رفيعة: "سفير الكونسرفتوار". هذا الدور يعكس التزامه العميق بنشر المعرفة الموسيقية، وتدريب الأجيال الجديدة من العازفين، وتمثيل المؤسسات التعليمية الموسيقية على أعلى المستويات. بصفته سفيرًا، يشارك غاياردو ديل ري خبراته الواسعة، ويقدم دروسًا إرشادية، ويُلهم الطلاب لاكتشاف إمكاناتهم الفنية.
وهذا ما قام به مع الكونسرفتوار عبر تقديم ماستر كلاسز للطلاب في فرصة نادرة للقاء عازف من هذا المقام. وجوده في هذه الأمسية في بيروت لم يكن مجرد عرض موسيقي، بل كان بمثابة لحظة ذهبية للجمهور اللبناني للتواصل مع فنان عالمي لا يقتصر تأثيره على المسرح فحسب، بل يمتد ليشمل الأوساط الأكاديمية والمجتمعات الموسيقية، مؤكداً على أهمية التعليم الموسيقي ودوره في صقل المواهب.
وإلى جانب التألق الفردي لغاياردو ديل ري، كان للدور القيادي لقائدة الأوركسترا الروسية، دايانا غوفمان، أثر بالغ في نجاح الأمسية. بقيادتها الواثقة والحيوية، ألهمت غوفمان الأوركسترا الفلهارمونية الوطنية اللبنانية لتحقيق أعلى مستويات الأداء. كان التناغم بينها وبين العازفين لافتًا، حيث كانت حركات يديها تعكس فهمًا عميقًا لكل مقطوعة، موجهةً الأوركسترا ببراعة لتجسيد كل Nuance وعاطفة في الموسيقى. لقد أظهرت غوفمان قدرة استثنائية على مزج الحساسية الفنية بالتحكم التقني، مما أسفر عن أداء متماسك ومليء بالروح. قيادتها لم تكن مجرد توجيه، بل كانت حوارًا فنيًا بينها وبين الآلات، تجسد فيه كل سطر موسيقي بدقة وعمق، وهي التي تقود الأوركسترا بتفاصيل جسدها وتعابير يديها متحكمة بعصاها وبالعازفين بدقة ماهرة وانسجام كامل.
وقدمت الأوركسترا الفلهارمونية الوطنية اللبنانية أداءً مشرفًا تحت إشراف غوفمان، وعزفت بتناغم وإتقان، مبرزةً مرونة واحترافية عالية تستحق الإشادة. كانت مساندة الأوركسترا لعازف الغيتار المنفرد مثالية، حيث خلقت خلفية صوتية غنية ومحلّقة، سمحت لكل منفرد بالتألق وفي الوقت نفسه الحفاظ على الانسجام العام للأعمال الموسيقية التي قدمت. تفاعل الأوركسترا مع ديناميكيات البرنامج الموسيقي كان لافتًا، حيث أظهر العازفون مستوى عالٍ من الإعداد والتدريب، مما يؤكد على الجهد الكبير الذي يبذله المعهد الوطني العالي للموسيقى. الأوركسترا، بفرديتها المتميزة، أثبتت أنها قوة موسيقية لا يستهان بها، قادرة على تقديم أعمال عالمية بمعايير دولية، وتجسد فخرًا وطنيًا للمشهد الموسيقي اللبناني.
وشكل البرنامج الموسيقي محور الأمسية، حيث ضم ثلاث روائع خالدة للغيتار في أمسية واحدة. بدأ الحفل بتحفة "كونشيرتو آرانخويز" (Concierto de Aranjuez) للمؤلف خواكين رودريغو (1901-1999)، وهي عمل لا يحتاج إلى تعريف، يعتبر أيقونة في موسيقى الغيتار الكلاسيكي. قدم غاياردو ديل ري هذا العمل بإحساس عميق وتفسير شخصي أضاف أبعادًا جديدة للقطعة المألوفة، مستعرضًا كل جملة موسيقية ببراعة تحبس الأنفاس. وتلك فرصة نادرة للجمهور اللبناني أن يستمع إلى عازف عرف المؤلف رودريغو وعزف معه ولعب هذا الكونشيرتو في حضوره، بحسب الأصول التي اعتمدها المؤلف نفسه.
وتبع ذلك عمل "ماسّات لآرانخويز" (Diamantes para Aranjuez)، وهي تحية شعرية من التألق العاطفي، من تأليف غاياردو ديل ري نفسه (1961-) مهداة لرودريغو. هذا العمل أظهر قدرة المؤلف على خلق موسيقى تجمع بين الأصالة والعمق، مع الحفاظ على روح الغيتار الإسباني الأصيل، وكشف عن جانب آخر من عبقرية ديل ري كمؤلف، حيث نسج ألحانًا عذبة تلامس الروح.
واختتمت الأمسية بقطعة "تقاسيم على أشبيليا" للغيتار رقم 1" (Taqaseem on Sevilla Guitar Concerto No. 1)للمؤلفة الموسيقية هبة القواس (1972-). هذا العمل هو بمثابة جسر موسيقي يربط بين الموسيقى الشرقية والغربية، حيث حملت "التقاسيم" روح الارتجال الشرقي الأصيل، مازجًة إياه ببراعة مع القالب الكلاسيكي للكونشيرتو، مما خلق تجربة سمعية فريدة ومبتكرة تعكس غنى التراث الشرقي وقدرته على الاندماج مع الثقافات الأخرى، حيث جمعت بين براعة العازف المنفرد وثراء الإرث الموسيقي اللبناني والشرقي. خلقت قطعة التقاسيم تفاعلاً هائلاً عند جمهور الحاضرين، رغم صعوبتها الموسيقية وتصويتاتها المعاصرة، إلا أن الحضور تماهى معها بشكل كبير وطلب إعادة عزفها كمقطوعة أخيرة، وهذا ما حصل إذ أعيد المقطع الأخير في ختام الأمسية.
كما أضاف الصرح المعماري البيروتي الأيقوني، بجماله وروعته، أجواءً فريدة تتناسب مع طبيعة الموسيقى الكلاسيكية الرفيعة. حدائق المتحف بخلفية واجهته الأنيقة وتصميمها الساحر وجمالياتها الفنية التي تحكي تاريخًا عريقًا، عززت التجربة الحسية للجمهور، حيث امتزج الفن البصري بفن السمع ليخلق تجربة ثقافية متكاملة. متحف سرسق، بتاريخه الغني كمؤسسة فنية وثقافية، يمثل خلفية مثالية لفعاليات من هذا النوع، مؤكدًا دوره كمركز حيوي للإبداع والتبادل الثقافي في قلب بيروت.
وحملت الأمسية أبعادًا عديدة للاحتفال بالتعاون الثقافي، والتأكيد على قوة الموسيقى في تخطي الحدود، ورسالة أمل وجمال من قلب بيروت. غادر الجمهور حدائق سرسق محمّلاً بذكريات لا تُنسى من الأصوات الساحرة، والأداء البارع، والروح الفنية العالية التي جسدها كل من عازف الغيتار الأسطوري، وقائدة الأوركسترا الملهمة، والأوركسترا الفلهارمونية الوطنية اللبنانية، وجمال الموسيقى نفسها. أمسية كهذه تؤكد أن بيروت ستبقى دائمًا منارة للثقافة والفن في المنطقة، وأن الموسيقى هي الجسر الأسمى الذي يجمع الشعوب والثقافات.