احتضن معرض رشيد كرامي الدولي في طرابلس إطلاق الموسم الموسيقي للأوركسترا الوطنية اللبنانية للموسيقى الشرق – عربية، في ليلة فنية ثقافية استثنائية، قدمتها الأوركسترا الوطنية اللبنانية للموسيقى الشرق عربية بقيادة المايسترو أندريه الحاج، وأحيتها الفنانة القديرة جاهدة وهبه، برفقة كورال القسم الشرقي في المعهد الوطني العالي للموسيقى بإشراف وتدريب الأستاذة عايدة شلهوب زيادة، بدعوة من رئيسة المعهد الوطني العالي للموسيقى الدكتورة هبة القوّاس، ورئيس مجلس إدارة معرض رشيد كرامي الدولي ومديره العام الدكتور هاني شعراني.
وجسّد الاحتفال إعلاناً ثقافياً عن نهوض المؤسسات الموسيقية والثقافية الوطنية، ودورها في إعادة إحياء المعالم التراثية، وبث الحياة في المؤسسات العامة. وتمثلت الروح القائدة لهذا المشروع في المعهد الوطني العالي للموسيقى، المؤسسة الأم للتعليم الموسيقي الرفيع في لبنان، الذي أثبت بجهور رئيسته أن دور الكونسرفتوار يتجاوز الجدران الأكاديمية إلى قيادة المشهد الثقافي الوطني، وبجهود القيّمين على معرض رشيد كرامي الذين يجسدون نهضة المعرض من ركام سنوات من النسيان.
حشد رسمي وجماهيري ملأ المقاعد المخصصة للاحتفال في قلب معرض رشيد كرامي المهيب، حيث ارتفع المسرح الضخم بإضاءته الساطعة التي أضافت بهاءً على هيبة المعلم التاريخي، وتلألأت الأنوار التي عكستها المياه المحيطة بالمسرح، والتي تشكّل جزءاً أساسياً من الهندسة للبناء المعماري النادر.
وعزفت الأوركسترا النشيد الوطني اللبناني افتتاحاً، وقدمت الاحتفال والمتحدثين الشاعرة والإعلامية ماجدة داغر مرحبة بالحضور وقالت: "لقاؤنا الليلة استثنائي لأنه يجمع مؤسستين عريقتين بالعطاء والثقافة والوطنية: معرض رشيد كرامي الدولي الذي يؤدي دوراً كبيراً في استعادة إرثٍ عظيم كاد أن يطويَه الزمن لولا الإرادة والتصميم والشغف، والمعهد الوطني العالي للموسيقى- الكونسرفتوار، هذا الصرح الثقافي والطليعي في نشر صورة لبنان الحضارية في العالم. الصرحُ الوطني الرائد في منطقتنا، الذي يعبُر هذا العام مئويتَه الأولى منذ تأسيسه عام 1925 مع الراحل الكبير وديع صبرا، ليقول للعالم: هذا هو لبنان المتربّع على عروش الثقافة والموسيقى والشعر والأدب والتاريخ وفنّ إرادة الحياة. ليقول للعالم: نحنُ أبناءُ الحضارة وصوتُ الأرضِ الأبيّة، ونحن آباءُ التاريخ وصنّاعُ المستقبل".
ثم كانت كلمة لرئيس مجلس إدارة معرض رشيد كرامي الدكتور هاني شعراني، جاء فيها: "نرحّب بكم في معرض رشيد كرامي الدولي، هذا المعلم الذي يشكّل رمزاً وطنياً للإرادة والطموح، وينطلق اليوم برؤية جديدة تهدف إلى استعادة دوره الريادي ليكون منارة للتنمية الاقتصادية والسياحية والثقافية. خلال فترة وجيزة من انطلاقة أعمال مجلس الإدارة الجديد، أي منذ شهرين فقط، استطاع معرض رشيد كرامي الدولي أن يثبت للعالم أنّ النهوض ليس حلماً بعيد المنال، بل فعلاً إرادياً يُصنع بالإيمان والرؤية والعمل المشترك. ففي زمنٍ عمّ فيه الإحباط وتراجعت الثقة بالمستقبل، أضاء هذا الصرح من جديد شعلة الأمل، مؤكداً أنّ الإرادة المجتمعية قادرة من خلال خطوات صغيرة على تحويل التحديات إلى فرص".
وأضاف: "بالأرقام: تخطّى عدد زوار معرض رشيد كرامي الدولي عشرة آلاف زائر خلال أربعين يومًا، تخلّلها تسعة عشر فعالية، وارتفع دخله بنحو ثلاثة مئة بالمئة مقارنةً بالأشهر الثلاثة التي سبقت تعيين مجلس الإدارة الجديد. انطلقنا بأعمال الرقمنة وأُجريت صيانة لمبنى الإدارة، وحصلنا على الموافقة لصيانة وتدعيم أحد المباني المتصدعة بدعم كامل من وزارة الثقافة ومنظمة اليونيسكو".
وتلته كلمة لعضو مجلس إدارة المعرض ومنسقة الحفل الدكتورة جمانة شهال تدمري وقالت: "الليلة تتعانق فيها الموسيقى مع أضواء معرض طرابلس الدولي، معرض رشيد كرامي. نجتمع لا لنحتفل بفنٍّ جميل فحسب، بل لنجدد الإيمان بدور هذا المعرض كمركزٍ نابض بالحياة، يحتضن في رحابه كل أشكال الإبداع والتنوّع والتواصل الإنساني. وُلد هذا المعرض ليكون منصة اقتصادية وتجارية للبنان والعالم. الليلة، يتخطى المعرض دوره ليصبح مرآةً حقيقيةً للبنان المتعدد، المنفتح، القادر على استقبال كل نشاطٍ يُغني المجتمع ويُسهم في نهضته. فالاقتصاد لا يكتمل إلا بالثقافة، والابتكار لا يعيش بلا فن، والتنمية لا تزدهر إن لم تتنفس من روح الإنسان. هنا، في رحاب المعرض، يمكننا ان ننتقل من الصناعة إلى الشعر، من الاستثمار إلى العزف، من التكنولوجيا إلى الفن، ليكون المعرض مركزًا حضاريًا متكاملاً يربط بين الفكر والعمل، بين الإنتاج والجمال، بين التجارة والثقافة، بين الماضي الذي نفتخر به والمستقبل الذي نبنيه معًا".
وختام الكلمات كانت للدكتورة هبة القواس ومما قالته: "هذه الليلةُ ليست زمنًا، بل لحظةُ وعيٍ تختبر فيها المدينةُ قدرتَها على الإصغاء إلى نفسها .فحين نصغي إلى الموسيقى، نحن لا نسمع الصوت بل نسمع حضورَنا وقد صار نغمة. وها نحن الليلة، في طرابلس، نصغي إلى أنفسنا، فالمدن، مثل البشر، تمرضُ عندما تصمت. وطرابلسُ صمتت طويلًا، لكنّها لم تفقد ذاكرتَها:ذاكرةَ الضوء، ذاكرةَ النغم، ذاكرةَ التاريخ والإنسان. من هنا، من قلب هذا المعرض،هذا الجسدِ المعماريِّ الذي رسمه أوسكار نيماير كأنّه يحلمُ بسماءٍ لا تغيب، نستعيدُ الفكرة التي أنشأته :أن يكون مساحةً للحداثة في الشرق، لا شاهدًا على زمنٍ مضى، بل صدىً لمستقبلٍ لم يولد بعد.إنّ معرض رشيد كرامي الدولي ليس تحفةً هندسيةً فحسب، بل شهادةٌ على رؤيةٍ سبقت عصرها.
واليوم، مع رئيس مجلس الإدارة الدكتور هاني شعراني وهيئتِه الجديدة، يعود هذا المكانُ ليكون منارةً في قلب الشمال، ومنبرًا للإشعاع الفنيّ في لبنان والمنطقة. وأردنا في المعهد الوطني العالي للموسيقى أن نكون أولَ من يمدّ إرادتَه إلى إرادتهم من خلال حفلاتٍ تُطلق من هذا الصرح لتحاكي العالمَ كلَّه".
وأضافت: "إنّ هذا اللقاءَ ليس حفلًا موسيقيًّا، بل رسالةٌ لبنانيةٌ جديدة: رسالةٌ دبلوماسية، ثقافية، اقتصادية، وإنسانية. فإطلاقُ الموسم الجديد للأوركسترا الوطنية اللبنانية للموسيقى الشرق-عربية من طرابلس، ليس قرارًا فنيًّا، بل انحيازٌ إلى مدينةٍ تستحق أن تُسمع. من هنا تبدأ رسالةُ الكونسرفتوار الوطني رسالةُ ثقافةٍ تُقاومُ اليأس،
وتحوّلُ اللحنَ إلى قوّةٍ لبناء الوطن والإنسان. من هذه الأرض نُطلق موسمَ الأوركسترا الوطنية، لا كفرقةٍ موسيقية، بل كجسمٍ وطنيٍّ حيّ، ينبضُ بتركيبٍ جديدٍ للهوية.
وفي قلب هذا الوعي، يكتسبُ حضورُ السفيرة سحر بعاصيري معنى يتجاوز البروتوكول.فحين كانت سفيرةً للبنان في اليونسكو، لم تكتفِ بتسجيل هذا المكان على لائحة التراث العالمي، بل سجّلت فكرةً أعمق: أنّ المعمار لا يعيش بالحجر، بل بالوعي الذي يحميه. شكرًا لكِ، لأنكِ حفظتِ ذاكرةَ الوطن، وجعلتِ من هذا المكان إرثًا إنسانيًّا للبشرية جمعاء. وختمت القواس: "من طرابلس، من معرض رشيد كرامي، نُعلن أنّ الفنّ ليس ترفًا، بل ضرورةٌ كالماء والهواء. وأننا لسنا هنا لنُقدّم حفلاً، بل لنُعلن عودةَ المعنى إلى صوته".
وكان حضور الفنانة جاهدة وهبه جسراً بين الحداثة الموسيقية وعمق التراث. أدائها العميق والشجي للقصائد (التي شكلت مع المقطوعات "أنغام وقصائد")، منح الأمسية طابعاً متماهياً بالشعر الراقي والتعبير الموسيقي الأوركسترالي. لقد أثبتت وهبه مجدداً قدرتها الفريدة على تحويل الكلمات إلى حالة وجدانية يتردد صداها في مساحات معرض نيماير المفتوحة.
فحلقت بصوتها المصقول وتجربتها الفنية الاستثنائية، إلى طبقات عليا من الأداء المتفرّد، حملت معها جمهور الحاضرين، إلى فضاءات خارج الزمان والمكان. وهبه الفنانة في ابتكار اللحظات الفنية، تمكّنت من القبض على سرّ المتعة الفنيّة الخالصة، ونثرها بجرعات متساوية بين مساحات الإنصات العميق حينًا، وبين انفلات المشاعر بجرعات زائدة أحيانًا. وبين القصائد والنغم، عبَرت "قصيدة الغناء" على جسورٍ متينة مَدَّتها بأدواتها الفنّية والأكاديمية، ومهاراتها المتميزة في إعادة تشكيل القصيدة إلقاءً وأداءً وإحساسًا، في خلطة سحرية تمثّل هوية فنية خاصة جدًا لا تشبه إلا جاهدة وهبه".
"أنغام وقصائد" وهو العنوان الذي وسّعت له وهبه منازل صوتها وحضورها، تحوّل على الخشبة إلى رحابةٍ من أصالة وحداثة، إلى مزج متمكّن من استحضار المقام إلى مقاله الأثير في الحنجرة الحاضرة دومًا للاحتفاء بالفن الملهم. احتفاء لا يحدث نادرًا في حفلات وهبه، إنّما هو دائم الإقامة في رؤيتها الفنية الخاصة. رؤية أهّلتها أن تجتاز فنّ الممكن، والسّهل، والمُتاح، والاعتيادي، والمقولَب، والنّمطي، إلى خصوبةٍ ولّادةٍ لمّاحة ومبتكَرة. مساراتها الفنية المتعددة، مكّنتها من تشييد صرح فنّي ذيّله توقيعُها، قوامه الكلمة واللحن والصوت والأداء وإجادة الوقوف على الخشبة ومَسرَحة الغناء، وهي الفنانة التي فتنت ألباب جمهور حفلة "أنغام وقصائد"، وقدّمت مع الأوركسترا المبهرة والمكتملة العديد وقائدها المقتدر المايسترو أندريه الحاج، روائع الفن اللبناني والعربي الأصيل، في خطّ بيانيّ فنّي مدهش و"سلطنة" غنائية امتدّت تأثيراتها إلى السامعين.
روائع من ألحان وقصائد كبار الشعراء والموسيقى والمعاصرين، كما في "سكن الليل" (شعر: جبران خليل جبران، لحن محمد عبد الوهاب توزيع أندريه الحاج) التي تزينت بإضافات وهبة الأدائية وبصمة الحاج بإعداد جذاب. و"رح حلفك بالغصن يا عصفور" (شعر: ميشال طراد، لحن: الأخوين رحباني، إعداد أندريه الحاج)، التي قدمتها الفنانة وهبه باحتراف عالٍ، أدهش الحضور بتمكنّها من تطويع صعوبة تحفة وديع الصافي، التي يهابها كثر من الفنانين. وأغنية "أرض الغجر" (شعر: ماجدة داغر، لحن: شربل روحانا، توزيع: إيلي معلوف)، بمقدمة موسيقية من توزيع المايسترو، استطاع فيها أن يضيف أبعادًا جديدة على الأغنية التي أغدق عليها شربل روحانا لحنًا ساحرًا حمل قصيدة داغر إلى عمق النغم. وأغنية "أهو ده اللي صار" (من أعمال سيد درويش، توزيع: أندريه الحاج). و"هوني السما" كلمات نادين عبد النور ولحن جاهدة وهبه وتوزيع أندريه الحاج. و"يا ريت فيي انهدى" شعر طلال حيدر، لحن جاهدة وهبه. وأغنية "إرادة الحياة" شعر أبو القاسم الشابي، لحن جاهدة وهبه وتوزيع سمير فرجاني. وقصيدة "قل لي" (شعر: سعاد الصباح، لحن جاهدة وهبه)، وأغنية الختام رائعة الأديب الألماني الحائز جائزة نوبل "لا تمضٍ إلى الغابة" ترجمة أمل جبوري وألحان وهبه التي تتضمن شغفها الموسيقي وهويتها وينتظرها جمهور وهبه في معظم حفلاتها، وغيرها من الأغاني والقصائد. وتخلل الحفلة المقطوعة الموسيقية "للحرية" للمايسترو الحاج. إلى جانب أعمال كبار الموسيقى واللحن، شكّلت معًا أمسية مختلفة في أبعاد متعددة.
وفي ختام الحفل قدم القيمون على معرض رشيد كرامي الدولي درعاً تقديرية لعقيلة رئيس مجلس الوزراء الدكتور نواف سلام السفيرة سحر بعاصيري سلام على دورها الكبير في تسجيل المعلم على لائحة التراث العالمي، وعلى دعمها المتواصل للمعرض.
"أنغام وقصائد" أمسية تنتظرها دومًا ذائقة فنية مثقفة، وجمهور لبناني وعربي متعطش إلى الأصالة والرقيّ في زمن يعبث به الاستسهال والاستهلاك. وها هو المعهد الوطني العالي للموسيقى، في حفلاته الغربية والشرق- عربية يعيد تأكيد حضور الموسيقى لاستعادة التوازن الثقافي إلى بلد الثقافة والحضارة والفنون. وما قدمه في حفلة طرابلس يمثل نموذجاً للمستوى المرموق في إقامة المهرجانات وتنظيم الحفلات التي يقتدى بها، لتكون جسراً ثقافياً وفنياً بين المؤسسات الثقافية ومؤسسات الدولة في تعاون مثمر ينطلق بنهضة فنية واسعة على مستوى الوطن.
التالي
على أنغام أغنية "حب وتفاصيله"... نوال الزغبي تستمتع بوقتها برفقة ابنها في سويسرا (فيديو)
سيلينا غوميز ترد على تلميحات هايلي بيبر: "كونوا لطفاء... هناك مساحة للجميع"
السابق