أنيتا سليمان
على الرغم من صدور قانون حق الوصول إلى المعلومات عام 2017 وتعديله عام 2021، لا يزال تنفيذه يواجه عراقيل تحدّ من فعاليته. فالمواطن والصحافي يصطدمان يوميًا بصعوبات في الحصول على البيانات المطلوبة، ما يجعل النشر الحكمي الذي ألزم به القانون الإدارات العامة، المسار الأكثر واقعية للحدّ من العراقيل وتسهيل الوصول إلى المعلومات.
ويختصر مراسل تلفزيون الـ LBCI إدمون ساسين هذه المعاناة بالقول: "قانون الحق في الوصول إلى المعلومات كان خطوة رائدة، لكنه بقي نصًا جميلًا من دون أي فاعلية حقيقية، لأن الإدارات لا تطبّقه كما ينبغي".
ويتحدث ساسين عن تجارب شخصية مع إدارات رسمية تجاهلت طلباته، من بينها وزارة المالية التي امتنعت عن الرد على طلب قدّمه منذ حزيران، ما جعل المعلومة تفقد قيمتها مع مرور الوقت. ويضيف أن بلدية بيروت ووزارة الاقتصاد تأخرتا أيضًا في تزويده بمعلومات مرتبطة بملفّات أخرى، الأمر الذي أفقدها مضمونها. ويشدّد ساسين على أن "قيمة المعلومة في توقيتها، فإذا وصلت متأخرة تفقد أهميتها".
لكن في المقابل، يذكر ساسين تجربة ناجحة مع وزارة الطاقة في قضية سدّ المسيلحة. فبعد مسارٍ قانوني طويل،وبمساعدة قانونيين، تمكّن من الحصول على المعلومات، بعدما ألزم مجلس شورى الدولة الوزير بالردّ تحت طائلة غرامة إكراهية. تجربة يعتبرها ساسين دليلًا على أن تطبيق القانون ممكن حين تتوافر الإرادة، وأن الحلّ الجذري يكمن في النشر الحُكمي، أي أن تبادر الإدارات بنفسها إلى نشر البيانات والمستندات من دون انتظار الطلبات.
من جهته، يعتبر المحامي علي عباس - الذي خاض معارك قانونية عدة في هذا المجال - أن الخلل لا يكمن في التشريعات، بل في تطبيقها، فالقانون اللبناني رقم 28/2017 المعدّل بالقانون 233/2021 يحدّد آلية واضحة لطلب المعلومات، ويلزم الإدارات بالرد خلال 15 يومًا قابلة للتمديد مرة واحدة فقط.
ويستعيد عباس تجربته مع وزارة الطاقة في ملف سد بسري، حيث تجاهلت الوزارة طلبه، فلجأ إلى مجلس شورى الدولة، الذي ألزم الوزير بتسليم المستندات تحت طائلة غرامة إكراهية بلغت 300 ألف ليرة عن كل يوم تأخير. ويؤكد أنّ المعلومة التي تستغرق عامًا من الإجراءات تفقد قيمتها وجدواها في خدمة المصلحة العامة.
كما ويلفت إلى أن غياب جهاز إداري داخل هيئة مكافحة الفساد يتولى مهام التبليغ والتنفيذ يجعل تطبيق القانون عملية معقدة، تتطلّب مراجعات متكررة لمجلس شورى الدولة لفرض الغرامات أو تنفيذ القرارات.
إنطلاقًا من هذا الواقع، يستعرض تقرير "قانون حق الوصول إلى المعلومات: صحافيون يروون واقع الحال" الذي أعدّته مؤسسة "مهارات"، واقع تطبيق قانون الحق في الوصول إلى المعلومات في لبنان من خلال تجارب صحافيين شاركوا في زمالات نظمتها المؤسسة، حيث حاولوا الحصول على معلومات تتعلّق بالشفافية المالية، الإصلاحات، الحوكمة، والمساعدات خلال الحرب، إلا أنهم واجهوا عراقيل كبيرة على مستوى الإدارات العامة، إذ ورغم مرور سنوات على إقرار القانون، لا يزال تطبيقه ضعيفًا ويشوبه الكثير من التعثّر، ما يحدّ من قدرة الصحافيين وسائر المواطنين على ممارسة الرقابة والمساءلة ومتابعة الأداء العام.
وتشير تجارب الصحافيين إلى غياب آلية موحدة للتعامل مع الطلبات، وتباين سلوك الإدارات بحسب الجهة المتقدمة بالطلب أو نوع المعلومات المطلوبة، ما يظهر انتقائية واستنسابية واضحة. تُظهر بيانات التقرير أن 70% من طلبات المعلومات لم تلقَ أي رد، بينما تمّت الإجابة على 11% فقط ضمن المهلة القانونية. كما تسجّل الجريدة الرسمية خروقات للقانون بعدم توفير محتواها بشكل إلكتروني مجاني وقابل للبحث، ما يشكّل تحديًا إضافيًا.
كما يُظهر التقرير ضعفًا في معرفة الصحافيين أنفسهم بالقانون، وعدم اعتمادهم عليه بشكل كافٍ في عملهم، نتيجة لغياب الدعم من مؤسساتهم أو نقص في التدريب. إذ ورغم وجود تجارب إيجابية كهيئة الشراء العام أو بعض منصات المساعدات، إلا أن معظم الصحافيين لا يستخدمون هذه الأدوات إما بسبب ضعف التوعية أو لانعدام الثقة بمردودها الفعلي.
ضعف في المأسسة وفي التزام الإدارات
يؤكد النائب السابق غسان مخيبر، صاحب اقتراح قانون حق الوصول إلى المعلومات في مجلس النواب، أن المشكلة اليوم لا تكمن في الحاجة إلى تطوير القانون، بل في تطبيقه الفعلي. ويشير إلى أن الإلزام الحقيقي يفرض على جميع الإدارات العامة الالتزام بأحكامه، لا سيما أن مجلس الوزراء أقرّ عام 2021 خطة عمل واضحة لتطبيق القانون، إلى جانب خطة خاصة لمتابعة حسن التنفيذ. ومع ذلك، لا تزال بعض الإدارات متقاعسة عن الالتزام، وفي مقدّمها الجريدة الرسمية.
ويعتبر مخيبر أن الإشكالية الأساسية تتمثل في عدم الالتزام بموجبات النشر الحكمي، وهي من الركائز الجوهرية للقانون، إذ تسجَّل مخالفات بارزة أهمها غياب التقارير السنوية لدى معظم الإدارات، وعدم نشر المصاريف كما يفرض القانون، إضافة إلى التقصير في نشر الموازنات والحسابات القطعية المدقّقة. كما يلفت إلى أن بعض الجهات الملزَمة قانونًا لا تزال تتصرّف وكأنها غير معنيّة بأحكام القانون من الأساس.
وفي ما يتعلّق بالمعوّقات، يشير مخيبر إلى نقص واضح في التدريب، إذ تفتقر إدارات كثيرة إلى الخبرة اللازمة لإعداد التقارير أو نشر حسابات المصاريف بشكل سليم. ويضاف إلى ذلك ضعف التحوّل الرقمي، حيث لا تزال غالبية الإدارات تعتمد الملفات الورقية، على الرغم من أن القانون يفرض امتلاك أدوات ومنصّات إلكترونية للنشر، فيما تفتقر بعض الإدارات أصلًا إلى أي منصة للنشر الإلكتروني.
تتقاطع ملاحظات مخيبر مع ما خلص إليه التقرير السنوي الأول بشأن تطبيق قانون الحق في الوصول إلى المعلومات، الصادر عن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، والذي يعكس واقعًا لا تزال فيه آليات التنفيذ منقوصة الفعالية، في ظلّ عوائق قانونية وإدارية تحدّ من تفعيل الصلاحيات الكاملة للهيئة وتُضعف قدرتها على الاضطلاع بدورها الرقابي. إذ إنها عالقة في صراع قانوني يؤخّر الموافقة على نظامها الداخلي ما يوقف إمكانية تفعيل كامل صلاحياتها وهو أكبر مشاكلها، فضلًا عن أنها تفتقر إلى المقومات الأساسية للعمل، أي المال والقدرات البشرية، لا سيما بسبب غياب نظامها الداخلي. فباتت الهيئة تكتفي بإتمام القليل من صلاحياتها أي استلام تصاريح عن الذمم المالية للأشخاص المحددين قانونًا والتدقيق بها، ونشر الثقافة القانونية.
في السياق، توضح عضو الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، القاضية تيريز علاوي، أن إحدى أبرز الثغرات الجوهرية تكمن في غياب صلاحية الهيئة بفرض العقوبات على الإدارات التي تمتنع عن تطبيق القانون، رغم وجود مشروع تعديل يهدف إلى تزويدها بهذه السلطة.
وتشير إلى أن قانون الحق في الوصول إلى المعلومات يرتبط مباشرة بقانون مكافحة الفساد، ويشكّل أحد ركائزه الأساسية، إذ يضمن لكل شخص، فردًا كان أم مؤسسة، الحصول على المعلومات من دون الحاجة إلى تبرير السبب، ضمن حدود السرية المحددة في المادتين الرابعة والخامسة.
وتلفت علاوي إلى أن الهيئة تلقت عددًا من الطلبات وأصدرت بشأنها قرارات، مشيدة بارتفاع مستوى الوعي لدى المواطنين وسهولة المراجعة المجانية أمام الهيئة، ما يعزّز المطالبة بالحق في المعرفة. لكنها تشدد في المقابل على أن "الهيئة لا تزال تفتقر إلى أدوات تنفيذية فعلية تجعل قراراتها ملزمة للإدارات المتمنعة"، وهو ما يعيق تحقيق التطبيق الكامل للقانون.
ويُظهر التقرير أن النشر الحُكمي لا يزال الحلقة الأضعف في تطبيق قانون الحق في الوصول إلى المعلومات، إذ تظهر النتائج أنّ ما يقارب 38% من الإدارات العامة لا تلتزم إطلاقًا بموجبات النشر، فيما يقتصر التزام الإدارات الأخرى على معلومات جزئية لا تتطابق مع ما يفرضه القانون من نشر للقرارات والموازنات والعمليات المالية والتقارير السنوية. ويعود هذا الإخفاق إلى ثغرات متعددة أبرزها ضعف فهم الموظفين للقانون وسوء تفسيرهم لموجباته، وغياب القدرات التقنية والبشرية اللازمة لتأمين النشر المنتظم، إضافة إلى افتقار عدد كبير من الإدارات والبلديات إلى مواقع إلكترونية فعّالة أو منصات محدثة، ما يجعل نشر المعلومات إلكترونيًا أمرًا صعبًا أو شبه مستحيل.
كما يواجه النشر الحُكمي تحديات بنيوية، منها غياب آليات الرقابة الداخلية، وعدم معرفة شريحة واسعة من الإدارات بدور الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، فضلًا عن ضعف الضغط الخارجي، حيث لم تتلقَّ 44% من الإدارات أي طلب معلومات خلال السنوات الأخيرة، ما يقلّل من الحافز لتطوير ممارسات الشفافية.
وتقدّم البيانات التي جُمعت حول تطبيق قانون الحق في الوصول إلى المعلومات صورة معمّقة عن مستوى التزام الإدارات اللبنانية، كاشفة في الوقت نفسه مكامن التقدم وجوانب القصور. فقد شمل التقييم مجموعة واسعة من الإدارات على المستويين الوطني والمحلي، وأسفر للمرة الأولى عن إعداد لائحة موحّدة بالإدارات الملزَمة بتطبيق القانون. وبات التقرير يشكّل مرجعًا أساسيًا لرصد مدى التزام القطاع العام بأحكام القانون رقم 28/2017.
وفي هذا الإطار، يوضح مدير عام شركة "آراء للبحوث والإستشارات" طارق عمّار، أن فريقًا من الخبراء بإشرافه، وبالتعاون مع الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أجرى دراسة وطنية شاملة حول واقع تطبيق القانون. وشملت الدراسة 213 إدارة مركزية، و97 مؤسسة عامة، و941 بلدية، واعتمدت على استبيان من 60 سؤالًا توزعت على أربعة محاور: النشر الحكمي، الاستجابة لطلبات المعلومات، احترام المهل القانونية، وبناء القدرات المؤسسية.
وعلى الرغم من التحديات الأمنية واللوجستية، نجح الفريق بجمع بيانات دقيقة، كشفت أن المشكلة الأساس لا تكمن في غياب المعلومات، بل في ضعف القدرات البشرية والتقنية والمالية للإدارات. ويؤكد عمّار أن "معظم الإدارات تفتقر إلى موظفين مؤهّلين أو بنية رقمية مناسبة لحفظ المعلومات ونشرها، فيما لا تتجاوز نسبة الإدارات التي تطبّق النشر الحكمي 10%. كما أن غالبية البلديات لا تمتلك مواقع إلكترونية فاعلة".
ويشير عمّار إلى أن الأزمة الاقتصادية منذ عام 2019 انعكست سلبًا على قدرة الإدارات على أداء مهامها الأساسية، من الكهرباء والإنترنت إلى الموارد البشرية، كما أن بعض الإدارات تعتبر نفسها غير ملزمة بتطبيق القانون، لا سيّما المؤسسات المختلطة أو تلك ذات المنفعة العامة.
الذكاء الاصطناعي في خدمة الوصول إلى المعلومات
بعد ما أظهره التقييم عن مدى التزام الإدارات العامة بالقوانين وحدد نقاط التقدم والتحديات، يتضح أن القوانين وحدها لا تكفي لضمان الشفافية وتمكين الوصول إلى المعلومات. من هنا يبرز دور التحوّل الرقمي والذكاء الاصطناعي كعنصر حاسم في تمكين هذا الالتزام.
ففي زمن التحوّل الرقمي، يبدو الحديث عن حق الوصول إلى المعلومات من دون منصات إلكترونية فعالة أمراً متناقضاً. وبحسب الخبير في التحوّل الرقمي فريد خليل، فإن التكنولوجيا يمكن أن تكون المدخل الأساسي لتفعيل هذا الحق، شرط أن تبادر الدولة إلى تحديث بنيتها الرقمية.
ويشير خليل إلى أن الإدارات العامة مُلزمة اليوم بنشر بياناتها وصفقاتها وموازناتها على مواقعها، لكن غياب مراكز البيانات وضعف التنسيق بين الوزارات يجعل من ذلك شبه مستحيل. فالشفافية لا تتحقق بالنوايا، بل بأنظمة رقمية متكاملة تتيح للمواطن الوصول الفوري إلى المعلومة، ويتطلب الأمر تعاوناً حقيقياً بين وزارات الاتصالات والاقتصاد والتكنولوجيا لتطبيق هذا القانون رقميًا، إذ أصبح التحوّل الرقمي شرطًا أساسيًا لمحاربة الفساد وتعزيز الشفافية.
بين القانون والواقع… ما الحل؟
في النهاية، يختصر هذا المشهد معادلة واحدة، هي أن الحق في الوصول إلى المعلومات لا يزال معطلًا في لبنان بسبب تضافر جملة من العراقيل القانونية والتقنية والبنيوية والثقافية، ما يفرض الحاجة إلى إرادة سياسية ومؤسساتية جادة لضمان الشفافية وتمكين المواطنين من مساءلة السلطة.
وفي ظلّ هذا الواقع، يوصي تقرير "مهارات"، بجملة من الإجراءات لضمان تفعيل القانون، أبرزها تطوير منصات إلكترونية محدثة للإدارات العامة، وتعيين موظفين مختصين باستلام الطلبات والرد عليها، وإنشاء سجل إلكتروني موحد لتوثيق الطلبات وتحليلها، إلى جانب ضرورة تحديث الإطار التشريعي بما يواكب التحول الرقمي، وتعزيز أدوات الرقابة المجتمعية، وتفعيل دور هيئة مكافحة الفساد، فضلًا عن تدريب الصحافيين على كيفية الاستفادة من القانون، وتفعيل آليات التواصل العام داخل الإدارات.
يُنشر هذا التقرير ضمن برنامج تدريبي حول "قضايا الشفافية والإصلاحات المالية والاقتصادية" تنظمه مؤسسة مهارات بالشراكة مع معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي وبدعم من الصندوق الكندي للمبادرات المحلية - CFLI.
التالي
وزير الداخلية ترأس اجتماع مجلس الأمن الداخلي المركزي... وهذا ما طلبه
متري: لبنان جاهز للإنتقال إلى المرحلة الثانية من حصر السلاح بيد الدولة
السابق